كتب داود هذا المزمور عندما تظاهر بالجنون أمام أبيمالك فطرده فإنطلق ونجا. ويقال هنا أبيمالك، وفي أصل القصة يقال أخيش ملك جت (1صم10:21-15) لأن أبيمالك هو اسم عام لملوك الفلسطينيين مثلما نقول فرعون في مصر.
وكان هروب داود إلى جت من أمام وجه شاول هو خطأ غير مبرر، خطأ إيماني، فإن كان الله يحميه في يهوذا، وقد رأي عنايته وحمايته مراراً فلماذا الهرب وهذا أدى به أن يتظاهر بالجنون وهذا ضد الصراحة والحق وهذا كله لا يليق برجل الله. وليس معنى أن داود أخطأ أن الله يتخلى عنه، أبداً فالله يعرف ضعف البشر وينجيهم من المؤامرات التي تحاك ضدهم من أشرار هذا العالم، وينجيهم أيضاً من نتائج أخطائهم الشخصية. وداود حين نجا لم ينسب نجاته لمقدرته في التظاهر بالجنون أو لذكائه، إنما نسب نجاته ليد الله التي أنقذته حين أخطأ بذهابه إلى هناك. وهذا المزمور تسبحة لله الذي أنقذه.
آية (1): "أبارك الرب في كل حين. دائماً تسبيحه في فمي."
علينا أن نسبح الله في كل حين، سواء فيما نراه خيراً أو فيما نراه شراً، فالكل يعمل معاً للخير، أي فيما يساعدنا على خلاص نفوسنا. أما الخيرات المادية فهي تأتي في يوم ولا تأتي في آخر، أما بالتسبيح فنحن نشترك مع الملائكة في عملهم. وعلمنا بولس الرسول"ان كل الاشياء تعمل معا للخير" (رو 8: 28) حتي ما نعتبره شرا ، هو للخير ، وعلينا ان نسلم بهذا ثقة في ان الله صانع خيرات ، حتي لو لم نفهم (يو 13: 7).
آية (2): "بالرب تفتخر نفسي. يسمع الودعاء فيفرحون."
من الذي يقدر أن يسبح الرب كل حين إلا الوديع المتواضع القلب، ومن هو المتواضع إلا الذي لا يفتخر ولا يمدح نفسه بل يفتخر بالرب (هذا هو لسان حال داود الآن).
آية (3): "عظموا الرب معي ولنُعَلّ اسمه معاً."
الله غير محتاج لتسبيح البشر، بل نحن المحتاجين أن نعظمه ونسبحه بألسنتنا وقلوبنا فالله أعطانا كل ما لنا، فلنسبحه بما أعطاه لنا، وبكل ما له عندنا. وقوله معاً إشارة إلى وحدانية الكنيسة، وحدانية الروح في الكنيسة.
الآيات (4-10): "طلبت إلى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذني. نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل. هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلصه. ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم. ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتكل عليه. أتقوا الرب يا قديسيه لأنه ليس عوز لمتقيه. الأشبال احتاجت وجاعت وأما طالبوا الرب فلا يعوزهم شيء من الخير."
يبدأ المرتل هنا في سرد أسباب تسبيحه لله. [1] فالله منقذ من الضيقات= من كل مخاوفي أنقذني. ونلاحظ أنه ربما نصلي والضيقة لا تنتهي، لكن المهم أن الله سيرفع مخاوفنا ويعطينا الثقة بأنه عن يميننا فلا نتزعزع. [2] الله يهب الاستنارة= تقدموا إليه واستنيروا= الله نور وبالمعمودية نستنير وبالتناول نستنير بل نصير نور للعالم نعكس نور المسيح الذي في داخلنا. [3] من يتكل على الله لا يخجل. [4] الله يحوطنا بملائكته، وربما الملاك تعني ملاك مرسل من الله فعلاً إلينا لحمايتنا، أو هو الرب نفسه الذي أتى فادياً ومخلصاً. والله يرسل ملائكة كثيراً لحماية أولاده، كما أنقذ بطرس من السجن (عب14:1). [5] عذوبة الله، وعذوبة الله لمن اختبرها تنعش النفس وتثير شهية قوية نحو الله. [6] الله ملجأ سائله= الأشبال احتاجت= الأشبال احتاجت لأن الله أنقذ فريستها من بين يديها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). وهي بالرغم من قوتها الطبيعية تحتاج، ولكن المسكين الضعيف إذا إتكل على الله لن يحتاج إلى شئ. وإذا عدنا إلى (مز13:22) نجد أن أعداء المسيح أحاطوا به كأسود والله نجاه. وهناك سؤال لماذا قال الاشبال ولم يقل الاسود؟ والإجابة ان الأسد هو الذي يعول ابنه الشبل الضعيف الصغير. ومع قوة الأسد فلقد يحتاج ابنه ويجوع. والام قد تنسي رضيعها فيجوع.لكن الذي يعتمد علي الله لا يمكن ان يعوزه شيء (مز 23: 1). والترجمة السبعينية قالت وبنفس المعني الأغنياء افتقروا وجاعوا ونلاحظ أن المزمور يصلي في الساعة الثالثة ساعة محاكمة السيد المسيح وإصدار الحكم عليه. ولكن هناك شروط في هذه الآيات لنفرح بعطايا الرب. [1] أن نطلب طلبت إلى الرب فاستجاب لي= اسألوا تعطوا [2] ننظر له وحده كمعين= انظروا إليه [3] التواضع والشعور بالمسكنة= هذا المسكين صرخ [4] ذوقوا= لم يقل انظروا فقط فما الفائدة أن نصف للإنسان حلاوة العسل بدون أن يتذوقه، لذلك لا يكفي أن نسمع عن الرب يسوع بل أن ندخل في شركة صلاة معه لنتذوق حلاوته [5] الاتكال على الرب وحده= طوبى للرجل المتوكل عليه الذي لا يشعر بأن قوته أو قوة أي إنسان قادرة أن تعينه فيلجأ إلى الله وحده. [6] السلوك بتقوى= اتقوا الله يا جميع قديسيه= فخوف الله ينقي الإنسان من دنس الخطية. ومن يسلك في مخافة الله لن يعتاز إلى شيء وبداية مخافة الله دائماً هي مخافة من الهلاك ومن العقوبة، وكلما تقدم الإنسان يتحول خوفه لخوف كامل، خوف المحبة، الخوف من أن يحزن قلب الله الذي يحبه، ومثل هذا الإنسان هو من يتذوق حلاوة الله.
الآيات (11-14): "هلم أيها البنون استمعوا إلىّ فأعلمكم مخافة الرب. من هو الإنسان الذي يهوى الحيوة ويحب كثرة الأيام ليرى خيراً. صن لسانك عن الشر وشفتيك عن التكلم بالغش. حد عن الشر واصنع الخير أطلب السلامة واسع وراءها."
المرتل هنا يرسم طريق السعادة في خطوات سلبية (الامتناع عن الشر) وإيجابية (صنع الخير). وهو يركز على خطايا اللسان (يع26:1 + يع3). وفي فعل الخير يركز على أن نطلب السلامة، والمسيح هو سلامنا فلنطلبه. نجد هنا داود المعلم، يعلم شعبه كيف يستفيدون من خيرات الرب. (يع17:4 من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له).
الآيات (15-22): "عينا الرب نحو الصديقين وأذناه إلى صراخهم. وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم. أولئك صرخوا والرب سمع ومن كل شدائدهم أنقذهم. قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح. كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب. يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر. الشر يميت الشرير ومبغضو الصديق يعاقبون. الرب فادي نفوس عبيده وكل من اتكل عليه لا يعاقب."
هنا نرى الأمان الإلهي= عينا الرب على الصديقين= فكيف نخاف والله يسمع لتضرعاتنا. وإن لم ينقذنا من الضيقة المادية التي في العالم، فهو سينقذنا روحياً ويخلص نفوسنا، وسماحه بالضيقة المادية سيكون كسماح الصائغ الذي يسمح بنار الفرن ليخرج الذهب نقياً. فلنتضع فالرب قريب من منكسري القلوب ومنكسر القلب لا يخاصم الله قائلاً لماذا سمحت بهذه الضيقة، بل يقول أنا لا استحق سوى هذا بسبب خطاياي. كثيرة هي بلايا الصديق= فمن يحبه الرب يؤدبه بعصاه، ولكنه كأب لا يضرب حتى تنكسر عظامه= يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر. المقصود أن الله لن يطيل التأديب حتى تنكسر عظام الإنسان الروحية ويفشل (مز3:125). ولكن ليس المقصود العظام الجسدية، فاللص اليمين كسروا عظامه وكان في الفردوس مع المسيح في نفس اليوم. والشهداء كسروا عظامهم وهم الآن في الفردوس. ولكن هذه الآية نبوة عن عدم كسر عظام المسيح (يو33:19) فالمسيح هو البار الحقيقي والكامل وحده الذي يعنيه هذا المزمور. وما هي نهاية الأشرار= الشر يميت الشرير= وهذه كانت عقوبة من صلب الرب. وعدم كسر عظام المسيح كان إشارة لعدم إنكسار كنيسته أبداً، فنحن من لحمه ومن عظامه أعضاء جسمه (أف30:5)
ونصلي هذا المزمور في الساعة الثالثة فنذكر وقت محاكمة المسيح، ونهاية الأشرار الذين أحاطوا به بل أصدروا حكم الصلب عليه ونهايته هو فلم ينكسر منه عظم، بل قام وصعد.